الخميس، 25 أكتوبر 2012

علاء خالد يكتب .. أمكنة: أغنياء ثورة

فوتوغرافيا: سلوى رشاد
نشرت في جريدة التحرير بتاريخ 6 أكتوبر 2012

فى أثناء مظاهرات ثورة يناير فى الإسكندرية، بعد أن تنفضّ المظاهرة ليلا، وننسلّ من الشوارع الرئيسية إلى بيوتنا فى الشوارع الجانبية، كنا نشاهد ونسمع أزيز خلاطات الأسمنت والزلط تعمل بكل طاقاتها، بينما البلدوزرات تهدم المبانى. كانت هناك نفوس أخرى لم تشغلها المظاهرات ولا الثورة، تجهد بكل ما أوتيت من قوة لكى تغتنم لحظة التحول السائبة، لتثبيت أقدامها، وعقاراتها، وضمائرها المخالفة، فى أرض المدينة. إنهم مثل هؤلاء الذين يستغلون الكوارث الطبيعية التى تحل بالمدن، كالزلازل، ويتمشون وسط الأنقاض يتشممون قطع الذهب والنقود، والأشياء النفيسة، ويخلِّصونها من بين أشياء الحياة اليومية للموتى. استغلوا ضوضاء المظاهرات ليمرروا ضوضاءهم، وضوضاء خلاطاتهم وبلدوزراتهم، دون حساب أو ضمير ينحنى لهذه الضوضاء الجماعية أو حتى ينصت إليها. حالة انتهاك مستمرة بدأت قبل الثورة، وأخذت مداها وسطوتها فى أثناء الثورة. كأن المعجزة التى حدثت كان لها سماسرة فى الانتظار. كأغنياء الحرب هم أغنياء الثورة الذين أثروا من هذا التحول، دون أن يشارك أحدهم فى التضحية، سوى التضحية المستقبلية بمئات الضحايا المنتظرين سكنى هذه العمارات المخالفة، التى أصبح سقوطها حدثا عاديا فى الإسكندرية. أصبح عمران وعمارة المدينة تحت سيطرة مقاولين لهم أتباع يلبسون جلابيب ويلفون لاسات بيضاء على رؤوسهم، ويخفون فى الجيب الداخلى للجلباب فردة سلاح. وآخرين بلباس مدنى حديث، يبيعون قوتهم لإرساء أشكال تخصهم فى العدل. أقصد حسنى النية منهم. هؤلاء متخصصون فى إخلاء أى مبنى وتطفيش سكانه بالتهديد، أو بإغراء المال، واستخراج تصريح هدمه. أو يحرسون تعلية مبنى مخالف، والسهر أمامه، وسط كركرة الجوزة، تحسبا لأى هجوم منتظر. أو تقويض أساسات مبنى أثرى بماء النار استعدادا لاستخراج تصريح بأنه آيل للسقوط. طبعا لا يحدث هذا إلا بالتواطؤ مع مسؤولى الأحياء، والشرطة، وغيرهم. أصبحت الإسكندرية مدينة مقسمة على عائلات مختصة فى حماية رأس المال الرهيب الذى يُستثمر فى العقارات المخالفة.
فى الشهر الماضى هُدم العقار الكائن فى 2 شارع كنيسة دبانة مع صلاح سالم (شريف سابقا). وهو الشارع المهم فى وسط البلد فى الإسكندرية. تكون ضفتاه متحفا مفتوحا للعمارة الإيطالية، ولم تتغير عمارته منذ ضرب الإسكندرية 1882، باستثناء إزالة مبنى الاتحاد الاشتراكى (البورصة القديمة) بعد حرقه فى مظاهرات الخبز عام 77. وتم إدراجه منذ 2007 فى قائمة التراث العمرانى لمدينة الإسكندرية، تحت رقم 63.
هدم المبنى ترك فراغا فى الشارع. كما يترك الضرس المخلوع فراغا تظل تتحسسه بلسانك باستمرار. لماذا لا يحدث كما فى الخارج، أن يحتفظوا بالواجهة المميزة للمبانى الآيلة للسقوط ويبنوا من خلفها، لحفظ عمارة الشارع. أو أن يتم تعويض أصحابها وتحويلها لمتاحف أو غيرها من النشاطات.
قبل هدم هذا المبنى مررنا عليه كثيرا، كأننا نودعه. كان مسيَّجًا بسرادق، كأنه سرادق عزاء، وهناك جريمة وميت، يريدون أن يواروه تحت التراب سريعا.