الجمعة، 1 نوفمبر 2013

عن المدينة والذاكرة ومأزق التراث

في الصفحات الأولى من الجزء الأول من ثلاثية «القارة المائية» (2006) The Liquid Continent، والذي يصف فيه الكاتب نيكولاس وودزورث رحلته للإسكندرية كواحدة من ثلاثة مدن بحرمتوسطية كبرى، يستقل المؤلف القطار المتجه للمدينة، وتأتي جلسته إلى جوار طالب جامعي سكندري كان منشغلا بهاتفه المحمول. يتبادل الاثنان كلمات قليلة عن الإسكندرية. غير أن الشاب يخرج عن صمته فجأة عندما بدى على الكاتب الاهتمام الشديد بإحدى الفيلات القديمة المهمَلة تصادف أن يمر القطار إلى جوارها في نهاية رحلته:

"إنها لا شيء" قالها وهو يشيح بيده في رفض. "هناك مئات من هذه المباني في الإسكندرية. كان الأجانب الأغنياء يعيشون فيها. إيطاليون، يهود، يونانيون، شوام، فرنسيون.. لقد رحلوا جميعا. والآن تختفي هذه البيوت أيضا. سرعان ما سيهدم هذا البيت أيضا. ما أهميته؟ انه قديم."

تعليق الشاب، مثل الفيلا نفسها، أثار الدهشة والتساؤل لدى الكاتب، فكتب يقول أن مثل هذا البناء التاريخي لو وجد في روما أو نابولي لكان له شأن آخر، لكنه في الإسكندرية أصبح مثالا على الإهمال. تعليق الشاب قصير ومقتضب، لكنه بلا شك لسان حال الكثير من سكان الإسكندرية على اختلاف أعمارهم وتخصصاتهم. بسبب عملي في تدريس العمارة واهتمامي بتاريخ المدينة العمراني سمعت مثل هذه الآراء كثيرا، ليس فقط من الطلبة بل من زملاء ومن مهندسين يمارسون المهنة منذ فترات طويلة، منهم من قام ببناء عمارات سكنية فوق حطام مثل هذه الفيلا منذ بداية السبعينيات. واليوم، وبعد عقود من هذا "الإحلال العمراني" سيطرت الأبراج الخرسانية تماما على خط سماء المدينة. أحياء كاملة اختفت ملامحها العمرانية بشكل كامل عبر العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة. تغير عمراني سريع وكاسح لن يدرك فداحته إلا من يقوم بمقارنة الصور الفوتوغرافية القديمة لشوارع المدينة وميادينها بحالتها اليوم. تضاعفت قيمة هذه اللقطات كثيرا مع تغير المدينة. بعض الصور تفشل كل الجهود المبذولة الاستنتاج مكانها الحالي، رغم أنها تحمل تاريخ يعود الثلاثينيات مثلا. 

حي "سموحة سيتي" في الثلاثينيات. ماذا تبقى من هذه الضاحية الحدائقية الفريدة؟ لا شئ!
الصورة عن موقع
aaha.ch

لقد كان أمرا ملفتا أن يثير الكاتب أسامة أنور عكاشة هذه القضية في توقيت مبكر في «الراية البيضا» المسلسل التليقزيوني الذي تم انتاجه عام 1988. في المشهد الأخير من هذا المسلسل يجلس أبطاله أمام البلدوزر الذي يتحرك بثقة ليهدم فيلا من روائع تراث المدينة المعماري بعد أن فشلت كل جهودهم الأخرى في الحفاظ عليها، وتقف الكاميرا في اللحظة التي تتشابك فيها الأيدي أمام الجرافة المتقدمة. لكن يبدو أن الرسالة -رغم صياغتها المبهرة ونهايتها البديعة- لم تصل إلى أهل الإسكندرية، واستمرت المدينة في التغير والتدهور، بل إن الفيلا التي شهدت أحداث المسلسل وكانت رمزا دراميا لتراث المدينة الفريد تم هدمها هي نفسها لاحقا. وهي، بالمناسبة، لم تكن -رغم طرازها الأوروبي الانتقائي- بيتا لأحد الأجانب أو "الخواجات" الذين شكلوا الموزاييك العرقي والثقافي الفريد لسكان الإسكندرية قبل 1952، وإنما كانت سكنا لعائلة عثمان باشا محرم شيخ المهندسين المصريين ونقيبهم ووزير الأشغال العامة في 14 وزارة مختلفة في ظل حكم فؤاد وفاروق.

فيلتا عثمان محرم باشا، مسرح أحداث مسلسل الراية البيضا، قبل هدمهما. الصورة تعود إلى السبعينيات 
الصورة من الموقع الشخصي للسيد بروس برامسون 

إن الإنسان بطبيعته يرتبط بالأمكنة التي نشأ فيها أو تلك التي ارتبط بها تاريخ أسرته أو احدى الجماعات التي ينتمي إليها اجتماعيا أو ثقافيا أو دينيا. والمجتمعات المختلفة دائما ما تتخيل أن هُويتها مرتبطة بأماكن بعينها تصبح "أمكنة للذاكرة" وتحمل بالتالي قيما ومعانٍ أعمق وأهم من غيرها. ولايخلو سياق خاص بالهوية الوطنية من حديث عن أماكن تحمل رمزية ينبغي على الجميع أن يحافظ عليها. فالسؤال هنا إذن لماذا ترك سكان الاسكندرية مدينتهم تتحول بهذا الشكل؟ ولماذا أصبحت المباني التاريخية إرثا يخص غيرهم من جنسيات أصبحت في نظرهم غريبة على المدينة؟ ومتى أصبح "القديم" غير ذي أهمية؟ لا شك أن مأزق التراث في الإسكندرية مرتبط بظروف المدينة الجغرافية والتخطيطية والاقتصادية، لكنني هنا سأقوم بالتركيز على التغيرات السياسية والديموغرافية الجسيمة التي طرأت على الإسكندرية (وعلى مصر بشكل عام) في أعقاب يوليو 1952 باعتبارها أحد الأسباب المباشرة وراء هذه التحولات. 


لقد كان العمران ولا يزال وسيلة هامة تم استخدامها في دعم الأنظمة السياسية بأساليب مختلفة عبر التاريخ. فمن يتحكم في شوارع المدينة وميادينها يستطيع أن يؤثر بالتالي بقوة في وجدان أهلها وذاكرتهم الجمعية بالشكل الذي يتوافق مع مصلحته. من يتحكم في عمران المدينة يتحكم بالتالي في قرار إقامة (أو إزالة) النصب التذكارية بما يتفق مع روايته المفضلة للتاريخ، ويملك آلية تغيير أسماء الشوارع والحارات والمحطات ومباني الخدمات العامة بأسماء الأشخاص والأحداث التي يريدها أن تبقى في الأذهان لكي يبني عليها شرعيته، ويملك القرار في اختيار ما هو جدير بالترميم والحفاظ من عمارة المدينة وما لا يستحق سوى الإهمال والتخريب، ويتحكم أيضا فيما يصح أولا يصح إقامته من طقوس أو احتفالات جمعية يمارسها سكان المدينة في حيزاتها العمرانية العامة. هذه السياسات التي تجمع ما بين التحكم فيما هو مادي ملموس وما هو معنوي غير ملموس تعمل في مجملها على تشكيل جوانب لا يمكن الاستهانة بها من المجال العام الذي يتفاعل من خلاله سكان المدينة، وبالتالي على تشكيل وجدانهم وهويتهم.


إذا تتبعنا التاريخ العمراني لمدينة الإسكندرية الحديثة منذ أن ازدهرت على يد الوالي محمد علي باشا وحتى اليوم، نستطيع أن نقسم هذا النوع من سياسات التعامل مع العمران الواعية لتفاعل "العمران-الذاكرة" إلى ثلاثة فترات تتزامن في الحقيقة مع التغيرات في الساحة السياسية المصرية. الحقبة الأولى هي حقبة الأسرة العلوية خاصة منذ عهد الخديو اسماعيل الذي كان أول من أقام تماثيل في الميادين العامة بالقاهرة والإسكندرية لترسخ تاريخ الأسرة الحاكمة في الحيزات العامة، فكان تمثال جده محمد علي باشا الذي أزيح عنه الستار بميدان المنشية عام 1873 هو الأول من نوعه الذي يقام في مدينة تنتمي إلى العالم الإسلامي.


باستطاعتنا -إن أردنا- أن نتابع ونحلل طبيعة الصراعات السياسية المعقدة بين سلطة القصر وسلطة الاستعمار ونفوذ الجاليات الأجنبية بالإسكندرية وأيضا التيارات والأحزاب السياسية الفاعلة في ذلك الوقت (الذي ترسخت فيه الأفكار النهضوية والقومية المصرية) من خلال رصد وتحليل التماثيل والأضرحة وأسماء الشوارع والميادين في الإسكندرية.

الوالي محمد علي ممتطيا جواده في قلب ميدان الإسكندرية الأكبر، ميدان المنشية. تمثال من البرونز للمثال الفرنسي جاكومار.
الصورة من موقع Ancient Egypt and Archaeology Web Site

 أما الحقبة الثانية، وهي الحقبة الناصرية، فقد أولت اهتماما بالغا بهذا النوع من إدارة العمران، فحرصت على استبدال كل ما يمكن أن يذكّر أو يرمز إلى فترة حكم الأسرة العلوية بالمدينة برموز "ثورة يوليو" وما يدعم شرعيتها من أسماء وأحداث تاريخية. فأصبح النصب التذكاري «للخديو اسماعيل» هو نصب «الجندي المجهول» و«فكتوريا كوليدج» أصبحت «كلية النصر»، وميدان «محمد علي» أصبح ميدان «التحرير»، وشارع «توفيق» صار شارع «عرابي»، وهكذا. وصاغ نظام ناصر نسخة معدلة من التاريخ كانت المدينة نفسها بشوارعها وعمارتها وسيطا في ترسيخها لدى العامة ضمن مشروع محكم استهدف ذاكرة المصريين بذاكرة جديدة (أو "ذاكرة مضادة" counter-memory إذا استخدمنا مصطلحا للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو).

تمثال الخديو اسماعيل في منتصف الستينيات مطموسا ومغلفا بالورق والقماش. لاحقا سينزع من فوق قاعدته وسيلقى في أحد المخازن، ثم ستطرح فكرة تحويله إلى عملات معدنية!
الصورة من مجلة «
أحوال مصرية»

كما تسببت سياسات عبد الناصر الاشتراكية ذات المفهوم الضيق لفكرة الوطنية بشكل مباشر وغير مباشر في رحيل جماعي للجاليات ذات الأصول غير المصرية عن الإسكندرية، وفي المقابل توافدت على المدينة أعداد هائلة من سكان أقاليم مصر الأخرى، ومن ثم، ومع هذه التغيرات الديموغرافية المفاجئة، لم تتوفر الظروف المناسبة لنشأة تلك الأواصر التي تربط بين قطاعات كبيرة من سكان المدينة وبين شوارعها وعمارتها والتي لا تتحقق إلا عبر فترات زمنية طويلة من التفاعل المتبادل. 


أما الحقبة الثالثة التي امتدت منذ بداية السبعينيات وحتى بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، فهي حقبة "الانفتاح" وشرعية "أكتوبر"، والتي اهتمت فيها السلطة لفترة وجيزة في السنوات الأولى لحكم السادات بفكرة الذاكرة والعمران أقامت أثنائها نصبا تذكاريا لحرب أكتوبر بميدان «الجمهورية» (محطة مصر سابقا)، وأزالت أو تعمدت اهمال بعض رموز الناصرية (مثل مبنى الاتحاد الاشتراكي الشهير، أيضا بميدان المنشية) في سبيل تحقيق "ذاكرة مضادة" جديدة، قبل أن تفقد اهتمامها تماما بالفكرة، تاركة المدينة تتشكل بواسطة رؤوس الأموال الجديدة الوافدة على المدينة دون تدخل يذكر من الدولة التي زهدت أيضا في أفكار الحفاظ العمراني والتراث. ليبدأ وجه المدينة في التحول السريع الذي لم يتوقف لحظة حتى الآن. 


لقد تركت هذه السياسات المتناقضة أثرها البالغ على علاقة سكان الإسكندرية بمدينهم وشوارعها وعمارتها الفريدة. وزادت حدة المشكلات الاقتصادية وتعقيدات البحث عن الرزق من انصرافهم عن الاهتمام بشأن المدينة وتراثها. والسؤال الآن إذن كيف يمكن من الأصل أن يتم الحفاظ على أبنية تاريخية في مجتمع أغلبه قد لا يعتبرها تراثا يستحق الحفاظ بعد كل هذه التحولات السياسية والاجتماعية؟ 


لقد حققت بعض الجهود الداعية للحفاظ على تراث المدينة بعض المكاسب في العقد الأخير من القرن العشرين عندما حاول عدد قليل للغاية من المتخصصين أن يقفوا في وجه التحول العمراني، وعلى رأسهم جاء د. محمد عوض ليضع لأول مرة قائمة للتراث العمراني بالإسكندرية أتمها عام 1999، ونجح بعدها في اقناع محافظ المدينة بتطبيقها كقائمة للمباني المحظور هدمها في المدينة مستفيدا من قانون الحاكم العسكري في ذلك الوقت الذي حظر هدم "الفيلات التاريخية". ثم أقرت الحكومة قانونا "للحفاظ على التراث المعماري" عام 2006 به ما يكفي من عقوبات (وثغرات) وتحددت بعده قائمة جديدة لتراث يحظر هدمها. فهل نجح كل ذلك في الحفاظ على "تراث" المدينة؟ لا شك أن هذه الإجراءات قد أبطأت بعض الشيء من وتيرة الهدم والتحول، لكنها لم توقفه بأي حال من الأحوال. لقد أثبتت التجربة أن القوانين مهما بلغت صرامتها لن تقنع أحدا بأن ما يمتلكه من مبان تاريخية هو تراث قيّم عليه أن يحافظ عليه ليبقى لأولاده وأحفاده. لقد هدمت مبان رائعة وهامة كانت مدرجة في القائمة الأولى وفي الثانية ولم يترك المُلاك والمستثمرون وسيلة أو حيلة أو ثغرة قانونية أو حجة دستورية أو ظرفا سياسيا استثنائيا إلا واستغلوه في هدم المزيد والمزيد من هذه المباني.


الأمر إذن مرهون بأن يشعر سكان المدينة نفسهم مرة أخرى بقيمة هذا التراث الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وبالتالي بتبعات خسارته. ومطلوب منا جميعا كمهتمين أو متخصصين أن نعمل على سد الفجوة بين سكان المدينة وتراثهم المفترض بكل السبل الممكنة. وعلينا أن نذكر أجهزة الدولة  بفداحة ماتسببت فيه سياسات الحقب الماضية وبأنها الآن معنية - رغم ترهلها ومشكلاتها العاجلة والمزمنة - ببناء ودعم هذا الوعي إذا أرادت أن تحافظ على ما تبقى من المدن المصرية.